إدارة الإفتاء

شروط عضو هيئة الفتوى


شروط عضو هيئة الفتوى

مما سبق ذكره في المقالات السابقة يتضح أهمية الهيئة إجمالاً، لكن من المهم جدًّا أن نتكلم عن العنصر المهم وأُس الهيئة وحجر الزاوية فيها، بل إن قوة الهيئة وضعفها تستمد من هذا العنصر المهم، ألا وهو المفتي.

فمهما عملنا من أجل إبراز دور الهيئة على الصعيد العلمي أو الإعلامي فلن يحظى ذلك المجهود بنجاح يذكر إن لم نحسن اختيار ذلك العنصر المهم. ولكن يظل السؤال:

ما المعايير التي ينبغي أن تتوفر في المفتي العضو في هيئة الفتوى؟

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي علينا أن نتجاوز فضول القول والإطالة بكلام معروف سلفاً؛ كأن نفصِّل في علوم الآلة التي ينبغي أن تتوفر في المفتي والذي هو عنصر الهيئة المهم، فأري أن ما يمكن إضافته هنا أن نقول عن الهيئة والتى تتكون من جملة من المفتين.

1) ينبغي أن تخدم الهيئة المذاهب الأربعة والتي اتفق عليها جماهير المسلمين، فيكون لكل مذهب عضو متقنٌ له يعرف أصوله ومتشبع بفروعه، ويعرف خبايا زوايا المذهب، بحيث قل مسألة تمر عليه إلا ويعرف مظانها، ولا يقوم مقامه ذلك المتخرِّج من تلك الجامعة التي تخط في شهادته مالكي أو حنبلي...الخ ليستجدي منصباً أو مالاً بها، بل لا بد أن نعرف خطورة هذا المكان وأن ننزل الناس منازلهم.

2) كما ينبغي أيضاً أن يكون من مجموع أعضاء الهيئة ذلك المحدِّث الذي اطلع على كتب السنن والمسانيد، وتشبَّع من علوم الحديث الشريف، وعرف ما يصلح للاستدلال وما لا يصلح، وعرف صحيح الأسانيد من سقيمها، فلا يستشهد في الفتوى بحديث ضعيف، ولا يذكر نصًّا لا يصلح الاستدلال به، فهو منظار المذاهب وبوصلة الفتوى وشأنه عظيم في الهيئة.

3) ومن الصفات المهمة التي ينبغي أن يتمتع بها عضو هيئة الفتوى: سعة الأفق، فلا يكون متعصِّباً لمذهبه، بل يرى أن الحق قد يكون مع غيره في مسألة كما كان معه في مسألة غيرها، فإن المفتي المتعصب لقوله أو قول من يقلده يوصد باب الفهم والاستيعاب لأقوال الآخرين مما يضيع أو يضعف جودة الفتوى وقوتها، ومهما كان ذلك المقلد - ضيِّق العطن - متمكناً في مذهبه فهو عقبة كؤود في كل جلسة للهيئة؛ لأنه يستنزف وقتها في محاولة إقناعه أو في محاولة رأب الصدع بينه وبين من يخالفه، فمن كان هذا شأنه فخُلوُّ الهيئة منه أولى، لأنه لا يثري الجلسة، ولا يقدح ذهنه بحل لما هو مشكل من موضوع الاستفتاء.

4) كما أنه من المهم أن نفرد بنقطة مستقلة التحذير من المفتي الماجن والذي لا يدع فتوى شاذة إلا تبناها، ولا قول قاصٍ إلا أدناه، فهذا لا ضابط له إلا هواه، فوجود هذا الصنف مع سابقه يضعف الفتوى، وبالتالي يضعف كيان الهيئة، وقوتها مقصودنا.

5) المستوى الأكاديمي لعضو هيئة الفتوى مهم جدًّا، وبالكاد تجد مفتياً في زماننا يصلح أن يكون عضواً في هيئة تعنى بهموم الأمة الدينية على كافة الأصعدة ذات الصلة بمهامها سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية... الخ؛ لأنه علم بالمشاهدة والمعايشة مع كثير من الفقهاء والعلماء أن العالم ذا المستوى الأكاديمي العالي، بل والمجيد للغة أخرى غير العربية، أقول تجده أكثر فهماً لمعطيات الواقع، وأوسع أفقاً من غيره، هذا وأنا أقول ذلك أرجو أن لا يفهم منه أن أحصر التحصيل العلمي في الدراسة الأكاديمية فحسب، بل أقول إن من حصَّل العلوم الشرعية عن طريق حلقات العلم ومجالسة العلماء أفضل بكثير من ذلك الذي حصلها عبر مقررات الجامعات، وذلك معلوم، لكن من حصَّلها من خلال حلقات العلماء وسلك الطريق الأكاديمي بالتوازي مع ذلك المجهود فهو أفضل بلا شك، وهو أرقى الأصناف الثلاثة، وهو المقصود بالحديث.

6) الإنتاج العلمي للعضو مهم أيضاً؛ وأقصد بالإنتاج أن يكون له حلقات علم أو مؤلفات تكشف عن ذلك العمق في فهمه، أو برامج تلفزيونية أو إذاعية تضع فهمه على المحك...الخ، فإن العالم الخامل علمياً إذا كان لا يحمل همَّ تبليغ العلم للآخرين ولا تستثير همته الساحة العلمية بما فيها من صخب علمي وإعلامي، أقول إن عالماً كهذا لا تستفيد منه هيئة إفتاء، فالعالِمُ الذي مُلئ همَّة وحيوية في مناقشة المسائل المطروحة في الساحة يتَّسم بصفة أساسية ينبغي أن تكون في عضونا المنشود، فكم هو مخيب للآمال ذلك العالم الذي تلجأ له الأمة في حل إشكالاتها، فيكون حين عرضها في جلسة الهيئة ثبط الهمة، قليل المشاركة، منطوياً على رأيه، لا تستثيره المسألة مهما علا مستواها العلمي أو تعقَّد حلها.

7) دماثة الأخلاق ورحابة الصدر معيار نفيس إن توفر في عضو الهيئة؛ فقلَّما جلسة لا يحتدم فيها النقاش وتختلف فيها الآراء إلا ويجد الشيطان مدخلاً إلى النفوس من خلالها، فتبرز هنا أخلاق العالم، فإن كان ضيق العطن سريع الغضب أخذ الاعتداد بالرأي مسلكه في تحدي الآخرين وتسفيه الآراء والتقليل من جودتها، وإن كان العالم على العكس من ذلك خاب ظن الشيطان فيه، بل قد يكون من دماثة أخلاقه وحسن تصرفه ما يطفئ الغضب لدى الآخرين ويحد من تشعب النقاش.

8) أن يكون عضو هيئة الفتوى ذكيًّا لمَّاحاً، وهذا الشرط قد لا يُعرف إلا بالممارسة، فإن عُرف قبل التحاقه بالهيئة فهو المقصود ، وإن لم تنكشف غفلته إلا بعد أن صار عضواً ووجد البديل فينبغي إعفاؤه، لأن كثيراً من المستفتين ليس لديه معيار إلا مصلحته فحسب، فإذا ما قدَّم سؤالاً فإنما يعرضه من الجهة التي يبدو أن الحق معه كما يعتقد هو، وذلك في أفضل الأحوال، إلا أن الأصل الذي ينبغي اتباعه اعتقاد صدق المستفتي، وإلا فإن هناك الكثير ممن يتلاعبون بألفاظ الاستفتاء وعباراته من أجل تحصيل منفعة من الفتوى الصادرة. وأنا أذكر هذا الشرط هنا لا أقصد بذلك أن أقول يجب على كل مفتٍ كشف نوايا المستفتي، كلا! فأنا أعلم أن المفتي يفتي على قدر السؤال، لكن يجب أن نعلم أن الإفتاء المؤسسي تلحقه تبعات شرعية عظيمة في كل فتوى صادرة ، فينبغي ألا تكون المؤسسة ألعوبة بيد المستفتين، وإلا أسقطنا هيبتها لدى المجتمع الذي هو قطب الرحى. ولا يفوتني هنا أن أذكر المثال الصادق للمفتي اليقظ فضيلة الشيخ عز الدين توني - رحمه الله تعالى - عضو هيئة الفتوى في دولة الكويت، فكم من مسألة تعاطفتُ مع السائل فيها - وكان ذلك في بداية عملي في إدارة الإفتاء - فأعرضها عليه، فيرفع سبابته يفرك صدغه بها، ثم ينظر إليَّ ويقول: من صياغة السؤال أشك في مصداقية المستفتي! فكم كنت أحنق وقتها على تلك الكلمات التي يتفوه بها، ولم أكن أعلم - ولعل ذلك لصغر سني - أنها ميزة قلَّ ما توجد في عالم مثله، وما أن يدخل المستفتي للجنة التي كنت أميناً للسرِّ فيها آنذاك حتى يأخذه في صولات وجولات في أسئلة دقيقة مفصليَّة، وما هي إلا دقائق حتى تنجلي الحقيقة وأرى صدق حدس ذلك الشيخ رحمه الله بأن المستفتي قد خبَّأ بعض المعلومات لتوجيه الفتوى توجيهاً يحصد به المصالح الدنيوية، فلا يزيد الشيخ على أن ينظر إليِّ بابتسامة رائعة ، فرحمة الله عليه.

9) حرصه على مراد الله في جوابه، لا إيجاد المخارج الضعيفة - لغير ضرورة - وتلمس الغريب من الفتاوى بما يرضي المستفتي، على أن يكون ذلك من غير إفراط في التشدد والورع والحيطة، ولا تفريط في الضوابط الفقهية والنصوص الشرعية، فرسالة المفتي الحقيقية تنطوي تحت مظلة مراد الله من عباده، لا التفلت منه ولا الالتفاف عليه، ولعل البعض يرى في ذلك المفتي الذي لا يفتي إلا بمصطلحات التشديد على الناس أنه هو ذلك العالم الرباني, وهذا غير صحيح البتة! ولا كذلك العالم المحلل لكل ما اشتبه فيه، بل العالم الرباني هو الذي يسهل على الناس أمر دينهم، وييسر عليهم ما وسعت النصوص الشرعية لذلك التيسير، فحمل الناس على ورع العالم والحيطة من كل شيء، وإعمال سد الذريعة في كل أمر هو ما يجب على عالم الأمة التورع عنه، ولنا هدي نبينا صلى الله عليه وسلم خير مسلك.

وحتى نكون واقعيين فإن هذه الصفات المذكورة يصعب توفرها في كل مفتٍ بنسبة عالية ترضي المسؤول عن تشكيل الهيئة، لكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلُّة، وإذا بلغ الماء قلتين لا يهمنا ما شابه، وينبغي أن يكون في كل مفتٍ ينتخب للهيئة أن تكون فيه نسبة جيدة من كل صفة ذكرت.

 

بقلم / تركي عيسى المطيري

مدير إدارة الإفتاء

 
وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - دولة الكويت - إدارة الإفتاء